كلب أسود بلا ذيل
الندبات التى تصيب أرواحنا فى الطفولة .. تبقى معنا بعد الكبر" . يقولون فى بلادي : "
كلنا يدرك هذه الحقيقة متأخراً ، عندما نبحث عن أنفسنا بين طيات الماضى ، فنجد أثراً هنا و آخر هناك ، و ننظر لأرواحنا ، فنجدها شيئاً مبهماً مليئاً بالنتؤات التى كانت أكثرها أيام الطفولة .
و كذلك سحر بنت رامى أبو جبل لم تدرك هذه الحقيقة حتى الآن ، فهى لا تزال فى السادسة من عمرها ، و تجلس أمام بيت أم نِضال تلاعب الكلب الذى بقى لها كذكرى تخبرها أنها يوماً ما ، كان لها بيتاً يتكون من طابقين و أباً يعمل مهندساً للكهرباء ، و أم تُعِد الطعام و تحكى لها قصص كثيرة عن حيفا و يافا و دير ياسين ، و تٌقبِّلها بين عينيها اللتين تشبهان لون العنب و تقول لها بصوت كالهمس : تصبحي على خير حبيبتى ، ثم تذهب إلى ياسمين لتحكم تغطيتها حتى لا تصاب بالبرد و تحتاج المزيد من الليمون و الأدوية المُّرة .
كم اشتاقت إلى هذا السرير و إلى ألوانها الإثنى عشر التى كانت ترسم بهم مع ياسمين فى الكراسة الطويلة البيضاء ، و عندما كانت تمل من الرسم ، كانت تذهب لتلعب مع الكلب بالكرة الخضراء ، ترمى له الكرة بعيداً ، فينطلق بكل سرعتة نحو الكرة و يقفز و يلتقطها بفمه ، و يعود بها مسرعاً إلى سحر.
تناديها أم نِضال : تعالى يا سحر ، أمك عالجوال من المستشفى فى مصر.
تحاول سحر الجرى كما كانت تجرى مع كلبها ، لكن العرجة التى فى قدمها اليسرى تمنعها من الجرى ، تصيح فيها أم نِضال :
- بسرعة يا سحر ، الشبكة ضعيفة و ممكن الخط يقطع.
فترتجف أوصال سحر و تحاول أن تسرع حتى تلتقط الجوال من يد الخالة أم نِضال و تقول فى لهفة :
- ألو .. ألو يا ماما .. أنا سحر
فترد أمها بصوت مبحوح :
- ألو .. ألو يا سحر ..
تتنهد سحر ، ثم تنهال فى البكاء و تقول :
- أريدك يا أمى ، أريدك أن تأتى ، الآن ..
- يا سحر قطعوا لى رجلىّ الاثنتين ، و قطعوا ذراعى الشمال ..
- عودى يا أمى هكذا و عندما يصلحوا لك يديكِ و رجليكِ عودى لتأخذيهما .. سأقبلك فى يدك اليمنى أربع مرات كل يوم يا أمى حتى تأتى يدك الأخرى ، و لكن عودى يا أمى .... أمى .. أمى ..
و لحظتها قُطع الإتصال ، فأخذت أم نِضال السماعة و أخذت تقول : ألو .. ألو .. و لكن بلا جدوى.
ظلت سحر تبكى قليلاً ، ثم فكرت فى الخروج إلى الحديقة لعلها تجد سلواها مع كلبها الأسود الذى لا ذيل له ، فهو آخر ما بقى لها فى هذا العالم الحبيس الذى تعيش فيه ، و فى هذه اللحظة سمعت ضوضاء فى السماء تقترب من بعيد ، و شعرت بحركة غير عادية فى الشارع ، و سرعان ما أصبح البيت مكتظاً بالبشر ، فقد جاءت عائلة أبو محروس كلها و ما تبقى من عائلة أبو جمال القبّانى و أخرين لا تعرفهم ، تذكرت هذا الصوت الذى كان آتياً من بعيد ،لقد كان يشبه صوت الطائرات التى قالوا عنها أنها هدمت منزلهم منذ ثمانية أيام .
و أخذت تنظر لمن بالبيت بذهول أدى إلى اتساع عيناها ، فأصبحت أكثر جمالاً ، كان كل ما حولها يثير الذهول ، الأحداث تتكرر كما قالوا لها تماماً ، فهى لم تكن قد رأت كل هذه التفاصيل أثناء قصف بيتها ، لأنها كانت بالداخل و ذهبت فى إغماءةٍ ، فلم تشعر بشىء إلا بألم شديد فى عظام فخذتها اليسرى عندما كانت فى المستشفى ، و عندما وضع الطبيب الخشبتين حول فخذها و قام بربطهما جيداً .
و فجأة ، بدأت الأصوات المخيفة تنهال كالمطر من السماء ، و بدأ الجميع يؤدون صلوات و ترانيم لا تفهمها.
اللهم إننا عبيدُك ، بنو إمائك ، نواصينا بيدك
أبانا الذى فى السماوات ، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك.
ماضٍ فينا حكمك ، عدلٌ فينا قضاؤك.
لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض.
و يرفع الجميع أكف الضراعة فى خضوع : اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ..
و تنهال دفعة أخرى من أصوات الإنفجارات المرعبة التى كانت أعلى و أقرب هذه المرة ، فتزداد الدعوات حرارةً ، و فى هذا السكون المرتعد سمعت سحر نباح كلب ، فتذكرت على الفور أنها تركت كلبها الأسود الذى لا ذيل له مربوطاً فى الحديقة الخلفية للمنزل ، و لكنها متأكدة أن أم نٍضال لن تسمح لها بالخروج ، فأخذت تنظر إلى الباب و أم نِضال ، ثم أخذت تقترب قليلاً قليلاً ، حتى وصلت بالقرب من الباب , ففتحت الباب و اندفعت للخارج و تركت بالدخل أفواه مفتوحةٍ و شهقات مكتومةٍ.
خرجت سحر بسرعة و دارت حول البيت و فوجئت بالكلب مصاب فى قدمه الأمامية اليمنى و هو يتطلع إليها بعينين تطلبان الرحمة، و أدركت منذ اللحظة الأولى أن قدمه تكسرت بسبب إحدى الشظايا التى أصابت رجله و وجهه والجانب الأيمن لبطنه ، ففكت الحبل بإرتباك و هى لا تكاد تتنفس من التراب الكثيف المحيط بها و أخذت تتمتم و عيناها مغرورقتين بدموع حبيسة : آسفة ..
حملت سحر كلبها الأسود الذى لاذيل له و دخلت به المنزل ، فجرت عليها أم نِضال و تمتمت بحمد الله ، و لكن سحر اتجهت إلى الركن الذى كانت تجلس فيه قبل الخروج ، و بدأت تضمد الكلب فى نفس الوقت الذى دخل فيه الرجل الأشعث ، ذو الشعر الرمادىّ ، يحمل بين يديه طفل لم يتجاوز الثالثة ، فبادرة الجميع بالمساعده و أجلسوه على كرسىّ ، و تسارعوا لخدمة الأب الذى بدا متجهماً و صامتاً بين المحاولات العديده لأخذ جثة الطفل من بين يديه.
كان هذا مما أراح سحر ، لأن العيون ابتعدت عنها و تركتها لتضع الدعامه جيداً للكلب الذى ظل يئن و ينظر لسحر ..
فمالت سحر على أذنيه و قالت له بإبتسامةٍ واثقة : ستكون بخير ، لكنك سوف تعرج قليلاً مثلى ..
و أخذت تلاعبه و تحكى له عن حيفا و يافا و دير ياسين مثلما كانت تحكى لها أمها ، و تناست العالم كله من حولها و شعرت بحنين شديد إلى أمها و الألوان و وجه ياسمين الضاحك و الحلوى التى كان يأتى بها أبوها ، فمالت على الكلب و احتضنته بقوةٍ ، و قالت له : أتعلم ، لن أتركك أبداً طيلة حياتى ، يكفى أنك الوحيد -من بين كل الكلاب- الذى لم تأكل من لحم ياسمين و أبى بعد موتهما.
ثم أخذت تفرك له فى شعر رأسه ، و أخذ هو يغمغم ..