كانت ولادتي ثورة، ولدت لأب ثائر وأم حرة زرعوا بقلبي بذرة حب المغامرة والخروج عن الطرق الممهدة. دُفعت نحو حدود قدراتي، ليس هناك حدود، أنت من تصنع حدود نفسك، تدفعها للخارج مرة تلو الأخرى، فتحصل على مساحات أوسع، للحلم.
لشغف الأطفال براءة مسلّية، أفتح باب الثلاجة وأفرغ محتوياتها على الأرض لأرى هل سأتمكن من فصل الأرز عن الفاكهة أم لا، أقذف بالكأس عاليًا لأرى كيف يكون ارتطامه على سيراميك المطبخ، هل سيكون صوته مثل صوت معلقة الشاي أم مثل مفاتيح أبي، شغفي بخوض التجارب ودفع حدودي كان حيًا حتى وقت قريب. أعتدت الحلم، ولم أكن أدرك خطورته، للأحلام غواية، براءة كاذبة، خبيثة، تستدرجنا لحظة بلحظة حتى نقع في شراكها، فنرى الواقع عبر نظارات أحلامنا هيّنًا وقابلاً للتغيير، للأحلام خطورة غير معلومة العواقب.
حلمت بخروج الملايين للشوارع، تمنت لو أسير في الشارع بحرية أكبر، وُلدت هذه الأمنية مع محمود، أمام سور كلية الهندسة بعد حديقة الأورمان، كان الطريق شبه مغلق بسبب عربات الأمن المركزي المتراصة بجوار أسوار الجامعة، وكأنها تضمها، تعتصرها وتُقبض عليها.
"لازم تخرج مظاهرة مليونية، لازم، طبعًا هيكون فيه دم وناس هتموت، بس مش هيقدروا يعتقلونا ويقتلونا كلنا. ما في حبوس تساع كل الناس زي ما بتقول الست فيروز."
كنت أنظر له وأبتسم، محمود هو أعز أصدقائي، وكان الأقدر على التعبير عن أفكاري، قد أكون حالمة لكني لا أجيد الكلام، كان الحلم ملحميًا، مظاهرات حاشدة في كل مكان، رجال ونساء وأطفال، هتاف واحد، مدوّي، يرجّ الدنيًا ويعيد للغيوم التى أطبقت على أنفاسنا اتزانها على الأرض. محمود كان صوتي الذى رحل ليحل مكانه صمت موحش، وحسرة، لأن واقعنا المطواطيء لم يكن أقل ملحمية عن الحلم.
في البداية، لم أكن لأتخيل الدنيا على ما كانت عليه، أصبحت السماء أقرب، داعبت النجوم وتدثرت بضوء القمر في ليالي الشتاء القارس، تطابق الواقع والحلم للحظات، لم أكن أريد إلا أن تتوقف الدنيا، الآن وهنا.
ولدت من جديد في هذا الحلم، أحببت، ربما داعبتنى الأحلام فاستجبت لغوايتها مرة أخرى، قابلته لأول مرة في الميدان، كان يغني لزياد الرحباني، نظرت إليه، لاحظ وجودي ونظراتي، فقام، أمسك ذراعي بيمناه، ولف يسراه حول خصري، ورقص معي وهو يغني:
بلا ولا شىء،                                                    
 بحبك.
 بلا ولا شي…
ولا في بها الحب
 مصاري ..
ولا ممكن فيه ليرات
ولا ممكن في اراضي …
ولا فيه مجوهرات..
تعي نقعد بالفي ..
مش لحدا هالفي.
حبيني وفكري شويّ..
انتصرنا للحظات، لا أقصد الإنتصار الجماعي الكبير، لكني أقصد انتصارنا الصغير، أنا وهو، إيماني الدائم الذي ولدت به هو أن لكل امرأة حلم، ولكل رجل رحلة، كان حلمي وكنت رحلته. عشنا سويًا. تقاسمنا الأحلام والأيام بين انتصاراتنا الصغيرة الخاصة، ومشاركاتنا في الإنتصارات الكبيرة، الملحمية، التي لم تدم طويلاً وتحولت لكابوس متصل أكره تذكّره. لم أكن أخاف البوليس قدر خوفي من المواطنين الشرفاء الذين خذلتهم أحلامهم ولم تعد تتحمل قلوبهم مغامرة أخرى قد تحمل لهم خذلانًا آخر. كانوا احيانًا يقذفوننا بالحجارة، أحيانًا بالسباب. كنت أرثى لهم وأشفق عليهم حتى اجتاحتني الحسرة، وتملكني الخذلان.
أتذكر اليوم، كانت الغيوم متراصة تباعًا، تذكرني بالسماء التى كانت تعتصر الجامعة، وكان معي معتز، كنت أهتف أمامهم: ” يا شهيد نام وارتاح، وإحنا نكمل الكفاح”. وأرفع صورة لمحمود مكتوب تحتها: ” ما في حبوس تساع كل الناس – محمود يسري - شهيد جمعة الغضب 28 يناير “
أرادوا فضّنا بالقوة، رفضت أن أرحل، أمسكت بيد معتز وهتفت بأعلى صوت، بهيستريا، “يا شهيد نام وارتاح، وإحنا نكمل الكفاح” جاء ضابط ينصحنا بالرحيل، كانت هيئته مقبضة، وكان الدم يسيل من يديه، ينفث بخار الدم من فمه، دم محمود. سحبني معتز وأرادنا أن نرحل، رفضت، تقدمت خطوتين تجاه الضابط، أصبحت في مواجهته تمامًا، بصقت عليه، صفعني، فدافع عني معتز وضربه، فأخرج مسدسه وقتله. هكذا بكل بساطة.
الحسرة لا تتملك الروح فجأة، تشعر أولاً بالفقد، بالخسارة، فراغ يحيط بالقلب ويسلب منه أمنه، ثم تأتي الوحشة شيئًا فشيئًا لتحيط بالقلب، عندها تولد الحسرة. هل كان لابد لي أن أحلم؟ هل بعض لحظات السعادة والأمل تستحق كل هذا الفقد؟
انغلقت على نفسي، تكورت بداخلي وأغلقت نفسي على نفسي، منعت نفسي من الحلم، لم يعد بالقلب يسع المزيد من الحسرات.
أصبحت أعمل 14 ساعة يوميًا، أحيانًا أكثر، لا أريد أن أفكر، لا أريد أن أتذكر. أهرب من نفسي، أنا قتلت معتز، قتلته وقتلت انتصاراتنا الصغير التى عشناها والتى كانت تنتظرنا، لم أعد أحتمل زحام الشوارع لأنها تجعلني وحيدة، فتجتاحني الذكريات من جديد لتنبش ما دفنته فيها من حسرات، ها هي مظاهرة أخرى لحالمين تحت تأثير الغواية يسيرون نحو هلاكهم يتشاجرون مع الأمن والمواطنين الشرفاء، الدم يغلي في رأسي، تتصاعد الصور والذكريات، أخرج من سيارتي، أهرول، ألتقط بعض الأحجار. أهرول من جديد، أشعر بغليان في رأسي، أقذفهم بالحجارة، وأبكي.