تتعدد النقاط التي يُمكن الإنتهاء اليها و
تتعد نقاط الإنطلاق كذلك ، لا يهم ، المُهم هو الطريق، فللسعادة – كما تعلمون يا
سادة - أسباب كثيرة .. و للبؤس أيضاً.
بدا اليوم ضبابياً و كئيباً بشكل غير مُطمئن،
لم أنم طوال الليل لأُنجز لوحات المشروع ، و لم يسع الوقت لإكمال نصفها على الأقل ،
لا توجد قهوة ، صُداع يحاول قهري بإقامة شعائر صلوات وثنية مُزعجة لشياطين الإنس و
الجن بأعلى مُقدمة رأسي ، و دقت الساعة السابعة و النصف و لم أنته من الشجار مع
أخي كي يُخفض صوت الموسيقى – في أحيانٍ أُخرى أُطالبه برفع الصوت كي أصل لذروة
التركيز، لكنها الآن و في هذه اللحظة كانت وبالاً طافحاً- فارتديت ملابسي الغير
مكويّة قبل أن اتشاجر مع أمي لأنني لم أُخبرها أن ملابسي المكوية اتسخت كلها، أخذت
لوحاتي و المفاتيح و حوالي عشرين جنيه فكّة كانت في الدرج و صفعت الباب ورائي، ثم
عُدت بعد أن هبطت دورين كاملين لآخذ الموبايل من الشاحن ، و صفعت الباب من جديد،
لاعناً كل الموبايلات و الشواحن.
بمجرد أن نزلت للشارع ووجدت الغيوم تتجمع في
السماء و كأنها ستتشاجر معي هي الأُخرى تأففت بشدة، فسوف تُمطر الآن و سيقف المرور
تماماً و لن أصل الكلية و لو بعد غد.
لم تُمطر لكنها ظلًت في غيوم مُتصل ، تأكد
يقيني بأنني تأخرت عندما وجدت المحطة مزدحمة تماماً، لن أركب ميكروباص اليوم،
سأسير للمترو و أحشر نفسي فيه وسط رائحة العرق و الجواكت الجلد الرديئة الصُنع حتى
أصل لمحطة الدمرداش و منها أركب أى مواصلات للكلية ، لا أعلم ما الذي سأركبه فلم
أسلك هذا الطريق قبل هذا اليوم الكئيب، و لكن المُجازفة مطلوبة ، أليس كذلك؟
القطار يسير ببطء و أشعر أنه يترنّح يميناً و
شمالاً كأنه لا يتحمل ما فيه من رُكاب، وصلت للمحطة ، و لم أعرف أين أذهب أو ماذا
أفعل، سألت شرطي المحطة عند خروجي فأخبرني أنني لابد و أن أركب تاكسي لأنه لا توجد
مواصلات لهناك مُباشرة ، لم أشكره و انصرفت.
لا شىء يمر من هنا إلا الميكروباصات و
الأتوبيسات المتخمة بالركاب ، ولا شىء علي أن أفعله إلا انتظار التاكسي الذي سيأخذ
كُل ما معي بالتأكيد ثمناً لثرثرته في أذني التى أصبحت لا أسمع بها من شدة الصُداع
، و فوجئت عندما تحسست مكان محفظتي أنني نسيتها ، و معنى هذا أنني لم يبق معي إلا
الفكة التى أخذتها من الدرج و لم تكن سوى سبعة عشر جنيها بخلاف الجنية الذي دفعته
ثمناً لتذكرة المترو ، نظرت في الساعة لأتأكد من الوقت، لقد تأخرت بالفعل على معاد
المُحاضرة الأولى، انتابني شعور يمزج بين الإستهتار و الإستسلام للأمر الواقع، و
لكن، و في هذه اللحظة ، قطع الفضول
انتظاري، فقد رأيت طفلاً لم يتجاوز العاشرة يحمل شنطة المدرسة الثقيلة و يتحرك على
المحطة ذهاباً و إياباً و يسير وراءه أخوه الأصغر سناً، يُقلده في كُل حركاته،
عندما يقطب جبينه، و عندما يُحاول أن يتماسك كي لا يبكي، و عندما ينظُر للناس من
حوله في قلق.
رغماً عني وجدتني أنجذب له، من الواضح جداً
أنه في أزمة، يبدو كَمَنْ ضل الطريق أو فَقَدَ مصروفه ولا يستطيع الذهاب للمدرسة،
اقتربت منه لكنني لم أسأله عن مُشكلته، ظللت أتفرج عن قُرب، ظل يذهب و يروح و يسأل
أخوه و يتطلع للناس و للمباني الكبيرة حوله، و في لحظة ما، وجدته يستسلم و يقطب
جبينه و ينكمش داخل نفسه و يجلس على طرف الرصيف، و أخوه يُحاكي كل أفعاله، ثم بدأ
البُكاء.
عندئذ تدخّلت و سألت الطفل: مالك ؟ فيه حاجة
وقعت منك؟ أنت تايه؟ ..
رد
بكلمات لم أفهم منها سوى : ماما ..
سألته : تُهت من ماما؟
قال
لي: لأ ..
قلت
له : أُمال مالك ؟ ما تعيطش عشان أعرف ماما فين و أوديك عندها ..
كان يبكي بحُرقة ، و كأنه لن يراها مرة أُخرى
.. حاولت تهدئته بصعوبة حتى قال بعد عدة شهقات مُتتالية حاول فيها السيطرة على سيل
بُكاءه : ماما عيانة و في المُستشفى و لمّا سألت بابا و هو بيودّينا المدرسة كدب
علينا و قال أنها مسافرة ، بس أنا سمعته بيقول لعمتو أمل إمبارح أنها هتعمل
العملية بُكرة - و قام بالتوضيح مُستطرداً
– النهاردة يعني .. أنا عاوز أروح لها، أنا خايف و مش عارف أروح لها إزاي.. إحنا
كُنا ماشين ورا بابا من غير ما يشوفنا لغاية ما وصلنا هنا و بعدين تاه مننا.
سألته : أنت عارف اسم المُستشفى إيه؟
قال لي: اه .. اسمها على اسم المُذيع التِخين
بتاع قناة المحور .. مُعتز الدمرداش .. كانت عمتو بتسال بابا و قال لها كده.
قلت له : أنا رايح هناك أصلاً .. ممكن أوصلك
في طريقي؟
فنظر لي الولد بنظرة قلقة : هتوديني لماما
ولا هتخطفني؟
قلت له : هوديك لماما عشان تشوفها و تطمِّن
عليها ، هيَّ ماما اسمها إيه ؟
قال : أميرة ..
قلت له : أه .. هعدي على طنط أميرة فى الطريق
.. لو عاوزين تيجوا أوصلكم ، تعالوا ، بس بسرعة عشان متأخر!
فأخذ أخوه يهمس له في أُذنه و الآخر يرد عليه
بهمسات مُماثلة ثم أمسكا كل منهم بيد الآخر، و جاء الكبير ليُمسك يدي.
و سرت و لا أعلم أين مكان المستشفى !
حاولت تسليتهم في طريقي ، فاشتريت كيسان
شبيسي لهما كي أُلهيهما في شىء ما حتى أسأل صاحب الكُشك عن مكان المُستشفى.
علمت منهم في الطريق أن الأكبر اسمه سمير و
الأصغر شادي ، و أن شادي لم يُتم واجبه بالأمس كما ينبغي لأنه "راحت عليه
نومة" لأن ماما لم تكن موجودة لإيقاظه للمذاكرة.
و عرفت أن بابا اسمه سعيد ، و أن جدو اسمه
ياسر و جدو التاني اسمه صلاح.
دخلت المستشفى وفي رأسى السؤال عن : أميرة
صلاح أو أميرة ياسر .. و إذا بسمير يفلت يده من يدي و يجري نحو المدخل و ينادي :
بابا .. بابا! و يجري خلفه شادي ، فيُذهل الأب لثوانٍ و يسألهم عن كيفية و سبب مجيئهم
بنظرة رحيمة مُشفقة .. و بعد لحظات من كلام سمير، لم يتمالك الأب نفسه، و ذرفت
دموعه وإذا به يحمل شادي و يُمسك بيد سمير و ينظر له طويلاً ، ثم يبتسم ، و يمشوا
معاً.
لم أتخيّل سيناريو اليوم بهذه الطريقة أبداً
، نظرت للساعة - لقد فاتت المُحاضرة الأولى و الثانية أيضاً قاربت على النهاية – لكنني
لم أُفكر وقتها في شيء سوى أن أشتري ورداً بكُل ما أملك الآن - الأربعة عشر جنيها
- و أعود للبيت بأسرع وقت مُمكن لأضع الورد بجوار أُمي و أُقبلها و ابتسم و أفتح
شباك غرفتي لأرى الشمس تظهر من جديد، ذهبية، دافئة.