بينما كدت أنتهي من قراءة كتاب " الطريق إلى مكة" فإذا بأمي تدخل عليّ بعينين دامعتين، يداها ترتجفان أمام وجهها وهي تقول: " تعالى شوف ستّك مالها يا محمد، انا بكلّمها و ما بترُدّش عليّ .. أنا خايفة" ..
علمت من وجهها أن جدّتي ماتت.
طك طك طك ..
-مين؟
- انا تيتة يا محمد، أدخل؟ ..
- تعالي يا تيتة، نوّرتي الأوضة.
-أنا جاية أقول لك حاجة يا محمد: أنت دلوقتي في ثانوية عامة، عاوزاك تشد حيلك و تطلع من الأوائل عالجمهورية. عاوزاك تشّرفنا و ترفع راسي. أهم حاجة تصلّي الفرض في وقته و تذاكر دروسك أول بأول و ربنا إن شاء الله هيكرمك.
-إدعيلي يا تيتة.
-بدعيلك و اللهِ يا ابني ربنا يكرمك أنت و إللي زيّك.
كُنت هذه المرة أكثر وعياً، كُنت على استعداد تام. و على الرغم من عُمق الشرخ الحادث في الروح، الذي يزداد عُمقاً بصوت نحيب أميّ الخافت و انسلال دموع أبي خِلسة و رغماً عنه إلا أن الصدمة لم تُلهني عن الإنتقال من الصورة الكُلية إلى تفاصيلها المُختلفة.
نعم. ماتت جدتي. و سيموت أبي و ستموت أمي: سيموت الجميع.
لازم البني آدم يتعلم. العلم هو أساس كل حاجة، ربنا أنزل أول آية في القرآن على الرسول عليه الصلاة و السلام بيقول فيها: " اقرأ باسم ربك الذي خلق". و انا قلبي حاسس أنك لو ذاكرت شوية السنادي هتطلع من الأوائل عالدفعة في الكلية. انا حلمت بكدا، و حلمي مش ممكن ينزل الأرض ابداً.
جئنا بالطبيب لأسباب مُختلفة: " لأنه يمكن تيتة تكون صاحية بس في غيبوبة .. كما قالت أمّي " .. أو " للأخذ بالأسباب .. كما قال جارنا " .. أو " للتأكّد من الوفاة و نبقى عملنا إللي علينا .. كما قال أحدهم"
دخل الطبيب غُرفة جدّتي، و بعد دقائق خرج علينا قائلاً: البقاء لله.
خرج أبي للبلكونة و نظر للسماء. بعيداً. هل كان يقول: لولا أخّرت ساعتها؟ .. أسند يديه على حافة سور البلكونة، و مال برأسه للأمام قليلاً و حاول - عبثاً - أن يُجاهد بُكاءه. كان كالطفل الذي فقد أمّه في زحام السوق و تَرَكته وحيداً.
أبوك من يومه و هو هادي، كان آخر العنقود و كان متدلّع بس مكانش شَقي. إللي كان شَقي و هو صغيّر و كان مغلبني في تربيته هو عمّك "أ" ، كان كل يوم يرجع من المدرسة و هو ضارب واحد ولا إتنين. و لمّا يرجع من المدرسة من غير ما يكون ضرب حد، يتخانق مع حد من اخواته البنات. خصوصاً "م" كانوا دايما ناقر و نقير مع بعض. و في مرة إتخانقوا خناقة كبيرة مع بعض عشان مانجاية، المانجاية كانت بتاعة "م" و كانت شايلاها في التلاجة، راح عمّك "أ" فتح التلاجة، و أخد المانجاية و خرمها من طرفها و شفط المانجة منها كلها و بعدين نفخها و حطها مكانها تاني و لا من شاف ولا من دِري. دوكها راحت تاكل المانجاية لقيتها منفوخة هوا.
بدأت الإجراءات ، علينا استخراج "تصريح الدفن" ثم الإتيان بالمُغسّلة و الكَفَنْ و سيارة نقل الموتى. و علينا الإتصال بالمسئول عن مقابر العائلة " بالعاشر من رمضان" لكي يُعد المكان لإستقبال جدّتي. يلي ذلك حجز قاعة أخذ العزاء.
حاولت طوال هذه الخطوات أن أكون مُلازماً لأبي، لم أره بهذا الضعف قط. هل كانت جدتّي هى نقطة ضعفه؟
قابلتنا سيدة لطيفة عند استخراج تصريح الدفن، كانت في غاية التفاهم - على عكس ما يُشاع عنهم - كانت تُحاول مواساتنا بالكلام عن أشياء مُختلفة: هو ده ابن حضرتك؟ ما شاء الله. انا برضو عندي بنت زيه. انت خلّصت دراسة؟ هي لسة بتدرس في هندسة شبرا. انتم ساكنين جنب المستشفى دي؟ انا كُنت بروح اعمل تفتيش عليهم. فيه بطاقة هويّة للحاجة معاكم دلوقتي؟ مفيش؟ مش مهم. ممكن تكتب إقرار ان البيانات صحيحة و على مسئوليتك و لما ترجعوا من الدفن أبقى هاتها بُكرة الصبح. البقاء لله. التصريح أهه.
أنا إللي هختارلك عروستك يا محمد. ولا ذوقي مش بيعجبك؟ أنت بس شاورلي عاللي تعجبك و أنا أخلّيها تجيلك و تبقى تحت رجليك.
عُدنا للمنزل، الكَفَن جاهز و المُغسّلة حاضرة. ترابيزة الغُسْل في اتجاه القبلة. الماء الفاتر بجانبها. أين عطور المسك؟ لحظات و تكون جاهزة. إلى أين انت ذاهب؟ الغُسل لا يقوم به إلا النساء. لا تدخل.
أقف بالخارج. امتلأ المكان بالرجال و السيدات. هل سنصلّي عليها العصر أم سيسرقنا الوقت إلى ما بعد ذلك؟
وقف جميع من بالمسجد خلف الجثمان. جاء عمّي "م" ليكون إمام الصلاة على جدتي. بعد الصلاة انطلقنا نحو المقابر.
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
زرت المقابر عدة مرات من قبل، لكنّي لم أقم في أيٍ منها بالمُشاركة الفعلية. كنت أقف و أشاهد ما يجري من بعيد كانني أرى ما يحدث حولي من خلف زجاج شفّاف سميك. و هذا ما لم يحدث هذه المرة. فُتحت المقبرة و نزلت داخلها. لم أشعر بغربة كما كُنت أتوقّع، هذا المكان سآتي إليه يوماً ما. سأكون مُمدداً تحت تراب أحد غرفه الأربع. دخلنا غرفة السيدات و قام المسئول عن المقبرة مع عمّي بتجهيز المكان من الداخل، و عند الإنتهاء كانت هذه هي الخطة: سنضعها هُنا، ثم نُجلسها على جانبها الأيمن، ثم نُغطّيها بالتراب. هكذا ببساطة جميع الأشياء المُعقّدة.
بعد الإنتهاء، قُمنا بغلق الغرفة، ثم المقبرة، و وقفنا ندعو لها.
كانت جدتي تتكلم كثيراً في أيامها الأخيرة على غير عادتها، خوفها من الوحدة كان طاغياً. كانت تحُب أن يجلس إليها أحد ليسمعها و تسمعه. يكلمها و تكلمه. كانت تكره أن تموت وحدها، كانت تتكلم عن كل شىء و أي شىء.
و بعد ما يقرب من ساعة تركناها وحيدة، تحت التراب، في غرفة داخل مقبرة بين مئات المقابر.
..