الأربعاء، 28 أبريل 2010

يحيا الموت..!




عندما يتوقف العالم ، ويجتمع سكانه فى مكان واحد ، رجاله و نساءه ؛ شيوخه و شبابه ، البنين منهم والبنات .

وعندما يجلس الذكور منفصلين عن الاناث ، كلهم جالسون ، صامتون ، شاخصة ابصارهم ، منصتة آذانهم ، يستمعون القران ...


فاعلم ان هناك شخصا ما -رجلا كان او امرأه- قد اختير ليكون من المسافرين عبر اللازمن من الفــــــــــانيه الى البـــــــــــاقيه.

عندئذ يرفع الناس كلهم رؤسهم الى السماء وينظروا ، تكاد تطير عقولهم من هاماتهم المرفوعه ، ويفكروا ؛ ويزداد الامر تعقيدا عليهم ...

ثم تنحنى رؤسهم جميعا ؛ فينقسموا صنفان :

الاول يحنى رأسه عجزًا لأنه لم يصل للنهاية ...

والثانى انه ادرك حقيقه الحياة؛ ادرك ان كل كمال ناقص ولكل تمام عجز ولكل نفس اجل ...




عندها يرى الناس الموت و كأنه اله ينتزع الحياه من بين الناس انتزاعا ...

ينتزع الروح من الجسد ... فيشقى لوفاته الاحباب ...تراهم ... فلا تدرى ماذا تفعل ؟

اتحزن عليهم ؟

ام تحزن لهم؟

ام تحزن لانك لم تر من مات؟

ام لانك لاتتذكر اخر مره قبلته فيها او احتضنته بين ذراعيك او حتى قابلته و كلمته ؟

تراهم من الهول والفزع ينتشرون

يقف كل واحد منهم فى جانب

ينظر الى الاخرين فى ذهول متصل

عيناه جاحظتان

كلاهما يذرف الدمع و كأنه هناك بالداخل من يدفع الدمع من عيناه اندفاعا حتى لا يستطيع الباكى ان يغلق عيناه

تراه يرتجف

يصيب الوهن اعصابه شيئا فشيئا

فيرتخى شموخه

ويتهاوى عنفوانه

وتخونه قوته

فتزل قدم بعد ثبوتها

فتنخلع قلوب الحاضرين جميعا خوفا من تكرار المشهد الذى لا يتكرر فى حياه الشخص الواحد و لو لمره واحده

.فى هذه اللحظه

يثبت الرجال

وتولول النساء

ويستقر الايمان فى قلوب العباد

او يذهب بصاحبه الى الالحاد فى غير رجعه




..

مـــحــمــود شــــاهــيــن ..



لم يقف أمام المرآه مثلما وقف هذا اليوم!
قد يحلم الشاب فى مثل هذا العمر بفتاةٍ جميلةٍ يتزوجها ، أو سيارةٍ فارهةٍ يسعى بها هنا و هناك ؛ إلاَّ محمود الذى ارتدى بنطلونه القماش البنىّ و القميص الأبيض و الحذاء الأسود واضعاً الأجنده تحت إبطة و الأقلام فى جيب قميصه أزرقاً و أحمراً و أسود.
و لم يخرج من البيت إلا بعد أن تمتمت أم محمود بآيه الكرسى و المعوذتين ، ثلاث مرات !

سعادته لا توصف بالكلمات ، يكاد يطير فرحاً ، ضارباً بعرض الحائط قوانين نيوتن التى أسهدته ليالى و حرمته لذه النوم سنين يتذكر تلك الليالى و يضحك ، يتذكر " الطبليه " التى كان يذاكر عليها ، و "الرِجل الملخلخه" التى ترغمه على الكتابه ببطء حتى لا يخرج خطه مشوهاً.

لم تكن حالته المادية تسمح له بدروس خصوصية ، فقط يحق له أن يحلم .

اشتغل بالمذاكرة – على الرغم من صعوبتها - أولاً المذاكره الأساسية ، ثم يأتى دورالمراجع التى لا يعلم بها مدرسوه من ناقلى العلم ، كان يستعير المراجع من المكتبة القابعة على أول الشارع ، و يشرع فى القراءه منها بنهم ، و يبحث عن المعانى التى تصعب عليه فهمها فى القاموس الذى اشتراه من مصروفه لمّا وجد حاجته إليه مُلِحَّة ، و لم يهدأ إلا بعدما أتم مرجع الميكانيكا و الفيزياء قبل دخوله الكليه

استمر فى تدوين ملاحظاته و أفكاره ، إنتظاراً لدخوله الجامعة ، ذلك الصرح الأكاديمى الذى طالما دعت له أمه بأن يكون من علمائه ، كزويل و مجدى يعقوب ، لم تكن أم محمود تعرف القراءة و الكتابة ، و لا تعلم زويل و لا يعقوب ، إنما تسمع من محمود أحلامه و رغبته فى أن يكون مشهوراً و يرفع رأس مصر عالياً ، وترى فى عينيه هذا البريق ، فتدعوا له و تشجعه .
دخل الحرم الجامعى لأول مره ، و دار بخلده أن يخلع حذاءه قبل الدخول ، ثم ابتسم من هذا التفكير الطفولى ، و سرعان ما اعاد وجهه إلى الصرامة و الجدية ، منذ متى و هو يحلم بهذه اللحظه ؟! ، و بمرور الوقت بدأ يشعر بوحشة المكان مع إدراكه للتفاصيل، لم يكن هؤلاء الجالسون على تلك المقاعد الرخامية رهباناً للعلم فى تلك الصومعه الكبيره ، بل كانوا جنساً آخر .


دلف إلى محاضرته الأولى ، مبكراً ، انتظر إلى ما بعد بدء المحاضره بنصف ساعة ، حتى دخل الدكتور رشدى عزّام ، لم يكن محمود ليتخيل عالماً بهذا الشكل قط ، لكنه أرجع الخطأ لنفسه بأنه لم ير على الحقيقة عالماً حقيقياً من قبل ، كان دكتور رشدى غليظ الوجه ، منتفخ الشفاه ، يتدلى كرشه بصوره بالغه ، به قسمات من ضباط الشرطه الفاسدين ، أزاح محمود هذا اللغط جانباً و انتبه إلى محاضرته .
شعر محمود بعد المحاضره بخيبه أمل لأنه لم يستمع إلى كلمه واحده جديده طيله المحاضره ، كل الكلام منقول بصوره سخيفة ، و ملقى بشكل سلبى على الطلاب ، تتخلله بعض الإهانات الشخصيه للطلبه ، لأن أحداً ما تكلم ، أو لأن أحداً ما نسى إغلاق هاتفه المحمول ، تجاهل محمود هذا الشعور ، و بدأ يتخذ سبيلاً آخر .



أخذ محمود أوراقه و أفكاره التى أخذ يدون فيها منذ ما يقرب من عامين ، و ذهب إلى دكتور رشدى فى مكتبه ، و عرض عليه أعماله ، فنظر إليه بإستنكار قائلاً :
- انت اسمك إيه يا ابنى ؟
- محمود شاهين يا دكتور .
- بص يا محمود ، انت تذاكر اللى بقوله فى المحاضره ، و سيبك بقى من الكلام لفاضى دا .
- بس يا دكتور أنا حاسس إنى مش بستفيد بأى حاجه ، الكلام كله عارفه و كاتب ملاحظات عليه كمان .
هنا انفعل الدكتور و بان عليه الحنق و قال :
- انت هتعرفنى شغلى يا أفندى ؟!
- لأ يا دكتور لا سمح الله ، أنا بس ....

و لم ينتظر منه رداً و أكمل قائلاً :

- اتفضل بره بدل ما أتخذ معاك إجراء قانونى ، اتفضل بره !


خرج محمود محبطاً ، لم يدب اليأس قلبه قبل هذا اليوم ، عاد إلى البيت مهموماً ، و روى لأمه ما حدث ، و أخبرها أنه يريد أن يترك الجامعة ، فهى صرح فارغ بلا روح و لا معنى ، فانفجرت فيه صارخةً مولولةً :
- بقى أنا ما صدقت إنك دخلت الجامعه عشان تشيل عنى الحمل بعد أبوك ما مات ، تقوللى عاوز تسيب الجامعه ؟! ، عاوز تشتغل ميكانيكى ؟! , طب ما كنت تقول من الأول بدل ما نصرف الفلوس دى كلها على علامك ، على الأقل لمَّا أختك اللى على وش جواز يجيلها عريس نبقى مستورين قدامه .


أصابت محمود دهشة أسكتته لحظات ، ثم استعاد وعيه عندما أردفت قائلهً :
- بص يا ابن الناس ، انت تسيبك من اللى فى دماغك دا ، و تكمل تعليمك و تمشى جنب الحيط ، لغايه ما تشتغل و تصرف على نفسك ، بعدها إعمل اللى تعمله .
شعر محمود بمراره تعتصر قلبه كل يوم و هو ذاهب للجامعة ، يمشى ببطء و ينظر لزملاءه بنظرهٍ جامدهٍ ، لا يضحك و لا يبكى .يدخل المحاضره ساكناً ناظراً فقط إلى دكتور رشدى حتى ينتهى ، ثم يخرج فى صمت .
و فى محاضره عن النسبيه ، رفع طالب يده ، فسمح له دكتور رشدى بالحديث ، فقال :
- يا دكتور أنا قريت مقاله كتبها عالم بيقول فيها أن أينشتاين عنده أخطاء فى النسبيه .
رد الدكتور مقاطعاً :
- أنت مالكش غير اللى أنا أقوله وبس ، أنت هتعمل لى فيها نيوتن !
فضحك الجميع ؛ فقام محمود فى صمت ، و خلع حزامه الجلدىّ ، و أتجه ناحيه الدكتور ، و أنهال عليه بالضرب.





..

ورقة من كراسة الدراسات الإجتماعية ..


أهلاً و سهلاً بكم

إسمى كريم محمود أشرف ..

و سنّى هو الثامنة ..

عذراً ، سأحاول الكتابة بقدر الإمكان باللغة العربية ..

لا أعلم لماذا أكتب باللغة العربية تحديداً .. و من الخطأ أن أكتب باللغة التى أتكلمها ..

لكنى أعلم فقط أن الكتابة لابد أن تكون بالفصحى ، و الكلام ؛ فكما تشاء ..

لا أعلم أيضاً لماذا أكتب الآن ..

لكننى سمعت أختى مريم تقول لصديقتها المقربة مرام ، أنها استراحت كثيراً عندما أمسكت بالورقه و القلم

و جلست على هذا المكتب و أخذت تكتب كل ما يدور ببالها ..


لكنّ مريم لم تسترح ، أعلم هذا ..

لكننى سأجرب ، لعلها تنجح معى ..



~~~~~~~~~~~~


هذا ليس خطأ مريم .. هو خطأ أبى ..

هو من فعل ذلك بنا جميعاً ، و بنفسه ..

أعلم أن أبى يحبنى ، و يحب مريم ، لأنه أبانا !

لكنه دائما يتشجار مع أمى و يغضب و يضربنا إذا شاهد أحداً منا أمامه ..


ّّّّّّّّّّّّّ~~~~~~~~~~~~


عندما يضربنى ، أحس كأننى أكرهه ، و أود أن أكون أكبر منه ، أنا لن أضربه لأنه
أبى ..

لكننى لن أتركه يضربنى ..

عندما ضرب مريم ، و رأيت الدم يخرج من فمها ، أردت أن أقول له : حرام عليك !

لكننى خفت ، و بكيت ..

و لم أستطع أن أقترب من مريم إلا عندما خرج أبى و صفع الباب وراءه ..

أعطيتها منديلاً ورقياً ، لكنه امتلاً كله بالدم ..

فأحضرت لها كيس القطن و المناديل حتى يقف الدم ..

أنا أحب مريم جداً .. لكننى عندما رأيتها تبكى و الدم يخرج من فمها أحببتها أكتر ..

وخفت أن تموت ..

لكنها الحمد لله لم تمت ، و توقف الدم الخارج من فمها ، لكن شفتيها أصبحتا متورمتين ..


ّّّّّّّّّّّّّ~~~~~~~~~~~~


أنا لا أعرف لماذا تشاجر مع أمى ، لكننى سمعت من شجارهما كلمات لم أفهمها مثل " مومس و عاهره .. " و سمعت أيضاً " قمار و خمرة و نجاسة .. "


أنا أريد أن يكون أبى هو عمو عمرو ، ليس لأنه محبوب و يذهب مع مرام و هيثم و طنط سمية النادى كل يوم جمعة .. أو لأنه يلعب معهم و يذاكر معهم ..

لكننى أريده أن يكون أبى لأنه لا يتشاجر مع طنط سمية و لا يضرب مرام و لا هيثم كل يوم ..



سأتوقف الآن عن الكتابة .. أشعر الآن بالراحة ..

لقد كانت مريم على حق ..


..
ّّّّّّّّّّّّّ

حياة


جلست اراقبها ، اتلذذ بالنظر الى كل حركاتها ، و بإمتصاص كل دقيقة من انفعالاتها ، تضحك تارة ، و تبكى تارة اخرى ، تبتسم فرحاً ، و تقطب جبينها الصغير فى رشاقة .حياة غامرة بالإنفعالات و الحركات ، هى منبع المشاعر و الإنفعالات التى خلقها الله ؛ المهندس و المبدع الأعظم للكون و النفس. هى اختى حياة ، ذات الشعر البنى الذى يلمع تحت اشعه الشمس عاكساً كل ألوان البهجة و معانى السرور ، ما اسعد اوقاتى التى اقضيها فى الإستمتاع بملاعبتها و مجالستها نهاراً،أو ان اروى على مسامعها قصة حتى تغفو عيناها العسليتان و تغلق جفنيها ، فأستمتع و أستأنس بمجالسة الملائكة التى تطوف حول سريرها فى خشوع و كأنها تطلب منها ان تفيض عليها من جمال روحها -الذى كجمال خلقها - ؛ حياة هى الجمال المفرد لذاته !



وذات يوم -ليس كباقى الأيام - أجلس على الأريكة امام التلفاز ، أُقَلِب فى صفحات العالم ، بينما حياة تجلس على الأرض فى عالمها الخاص،تلعب مع عروستها صفاء التى أضفت عليها من روحها و أخذت تعلمهاكيفية اللعب و تمشيط شعرها ، ابتسمتُ لها ، و عاودت أتصفح التلفاز ، فإذا بالإذاعة الإخبارية – التى تعرض دوماً آثام البشرية السوداء – تعرض فيلم رعب حقيقى !أشلاء بشرية متناثرة فى جميع الإتجاهات و الأركان ، بيوت هدمت ، و صوامع و مساجد دكت بالأرض ،الصراخ يعلوه العويل ، يختلط الدم بالعظم و اللحم،كما اختلط الحلم بالحرمان ، و الأمل بالضياع ، و الكفر بالإيمان! هذا رجل يبكى حاله ، و هذه أم تضرب و جهها و تخمش صدرها و تمزق ثيابها صارخه بآهات كل أم فقدت رضيعها الذى بين يديها ،آهات تخترق حجاب السماء ، و تصعد لأعلى ،فوق السماوات السبع ، تقتحم المجلس الإلهى الأعظم ، و تصرخ فى حضره الملك : ما ذنب رضيعى ؟! من ذاك الإله الى يرضى لعباده بمثل هذه الفوضى ؟!


تزلزلتُ على صرخة حياة حينما رأت دبابة تعبر على رأس طفل فى مثل عمرها فافنجرت رأسه ينبوعاُ أحمر! على الفور جاءت امى و سحبت حياة من امام التلفاز و جرت بها على الغرفة تهدىء من روعها ، و توعدتنى بنظره عرفتها و لم أكترث إلا أن مجلسى أصبح مجرداً من الحياة ، اصبح بلا حياه !و فجأة ،توقف الإرسال،لم ينقطع و لكنه توقف،صورة بقايا و جه الطفل ماثلة على الشاشة ، يداً خفيه أوقفت الصورة ؛ ماهذا يا الله
!!كيف لم أُلاحظ تلك البسمه المرتسمه على وجه الطفل ، او بقايا و جهه ! ابتسامه رضا و طمأنينه ، أهو راضٍ عن نفسه؟!أهو راض عن ربه؟!الإجابه جليه فى ابتسامته! هناك أشخاص يهبون بجمالهم الحياة لمن لا حياة له و هناك من يهبون بحياتهم الجمال لمن لا جمال له ! ؛ حياة ، أنظر اليها لأشعر بروح الفنان ، روح العظمه اللامحدودة ، و هذا الطفل،ارى ثراه ينشر السعادة،و يشع من قبره النور إلى كل الدنيا؛فقبره هو مهد الحريه التى هى سيبل سعادة الإنسان و سبيل إبداعه و رقيه و فنه؛قبره هو الحياة؛ستظل السعادة فى الكون باقية ، يلازمها الموت و الجمال ..!