الأربعاء، 28 أبريل 2010

مـــحــمــود شــــاهــيــن ..



لم يقف أمام المرآه مثلما وقف هذا اليوم!
قد يحلم الشاب فى مثل هذا العمر بفتاةٍ جميلةٍ يتزوجها ، أو سيارةٍ فارهةٍ يسعى بها هنا و هناك ؛ إلاَّ محمود الذى ارتدى بنطلونه القماش البنىّ و القميص الأبيض و الحذاء الأسود واضعاً الأجنده تحت إبطة و الأقلام فى جيب قميصه أزرقاً و أحمراً و أسود.
و لم يخرج من البيت إلا بعد أن تمتمت أم محمود بآيه الكرسى و المعوذتين ، ثلاث مرات !

سعادته لا توصف بالكلمات ، يكاد يطير فرحاً ، ضارباً بعرض الحائط قوانين نيوتن التى أسهدته ليالى و حرمته لذه النوم سنين يتذكر تلك الليالى و يضحك ، يتذكر " الطبليه " التى كان يذاكر عليها ، و "الرِجل الملخلخه" التى ترغمه على الكتابه ببطء حتى لا يخرج خطه مشوهاً.

لم تكن حالته المادية تسمح له بدروس خصوصية ، فقط يحق له أن يحلم .

اشتغل بالمذاكرة – على الرغم من صعوبتها - أولاً المذاكره الأساسية ، ثم يأتى دورالمراجع التى لا يعلم بها مدرسوه من ناقلى العلم ، كان يستعير المراجع من المكتبة القابعة على أول الشارع ، و يشرع فى القراءه منها بنهم ، و يبحث عن المعانى التى تصعب عليه فهمها فى القاموس الذى اشتراه من مصروفه لمّا وجد حاجته إليه مُلِحَّة ، و لم يهدأ إلا بعدما أتم مرجع الميكانيكا و الفيزياء قبل دخوله الكليه

استمر فى تدوين ملاحظاته و أفكاره ، إنتظاراً لدخوله الجامعة ، ذلك الصرح الأكاديمى الذى طالما دعت له أمه بأن يكون من علمائه ، كزويل و مجدى يعقوب ، لم تكن أم محمود تعرف القراءة و الكتابة ، و لا تعلم زويل و لا يعقوب ، إنما تسمع من محمود أحلامه و رغبته فى أن يكون مشهوراً و يرفع رأس مصر عالياً ، وترى فى عينيه هذا البريق ، فتدعوا له و تشجعه .
دخل الحرم الجامعى لأول مره ، و دار بخلده أن يخلع حذاءه قبل الدخول ، ثم ابتسم من هذا التفكير الطفولى ، و سرعان ما اعاد وجهه إلى الصرامة و الجدية ، منذ متى و هو يحلم بهذه اللحظه ؟! ، و بمرور الوقت بدأ يشعر بوحشة المكان مع إدراكه للتفاصيل، لم يكن هؤلاء الجالسون على تلك المقاعد الرخامية رهباناً للعلم فى تلك الصومعه الكبيره ، بل كانوا جنساً آخر .


دلف إلى محاضرته الأولى ، مبكراً ، انتظر إلى ما بعد بدء المحاضره بنصف ساعة ، حتى دخل الدكتور رشدى عزّام ، لم يكن محمود ليتخيل عالماً بهذا الشكل قط ، لكنه أرجع الخطأ لنفسه بأنه لم ير على الحقيقة عالماً حقيقياً من قبل ، كان دكتور رشدى غليظ الوجه ، منتفخ الشفاه ، يتدلى كرشه بصوره بالغه ، به قسمات من ضباط الشرطه الفاسدين ، أزاح محمود هذا اللغط جانباً و انتبه إلى محاضرته .
شعر محمود بعد المحاضره بخيبه أمل لأنه لم يستمع إلى كلمه واحده جديده طيله المحاضره ، كل الكلام منقول بصوره سخيفة ، و ملقى بشكل سلبى على الطلاب ، تتخلله بعض الإهانات الشخصيه للطلبه ، لأن أحداً ما تكلم ، أو لأن أحداً ما نسى إغلاق هاتفه المحمول ، تجاهل محمود هذا الشعور ، و بدأ يتخذ سبيلاً آخر .



أخذ محمود أوراقه و أفكاره التى أخذ يدون فيها منذ ما يقرب من عامين ، و ذهب إلى دكتور رشدى فى مكتبه ، و عرض عليه أعماله ، فنظر إليه بإستنكار قائلاً :
- انت اسمك إيه يا ابنى ؟
- محمود شاهين يا دكتور .
- بص يا محمود ، انت تذاكر اللى بقوله فى المحاضره ، و سيبك بقى من الكلام لفاضى دا .
- بس يا دكتور أنا حاسس إنى مش بستفيد بأى حاجه ، الكلام كله عارفه و كاتب ملاحظات عليه كمان .
هنا انفعل الدكتور و بان عليه الحنق و قال :
- انت هتعرفنى شغلى يا أفندى ؟!
- لأ يا دكتور لا سمح الله ، أنا بس ....

و لم ينتظر منه رداً و أكمل قائلاً :

- اتفضل بره بدل ما أتخذ معاك إجراء قانونى ، اتفضل بره !


خرج محمود محبطاً ، لم يدب اليأس قلبه قبل هذا اليوم ، عاد إلى البيت مهموماً ، و روى لأمه ما حدث ، و أخبرها أنه يريد أن يترك الجامعة ، فهى صرح فارغ بلا روح و لا معنى ، فانفجرت فيه صارخةً مولولةً :
- بقى أنا ما صدقت إنك دخلت الجامعه عشان تشيل عنى الحمل بعد أبوك ما مات ، تقوللى عاوز تسيب الجامعه ؟! ، عاوز تشتغل ميكانيكى ؟! , طب ما كنت تقول من الأول بدل ما نصرف الفلوس دى كلها على علامك ، على الأقل لمَّا أختك اللى على وش جواز يجيلها عريس نبقى مستورين قدامه .


أصابت محمود دهشة أسكتته لحظات ، ثم استعاد وعيه عندما أردفت قائلهً :
- بص يا ابن الناس ، انت تسيبك من اللى فى دماغك دا ، و تكمل تعليمك و تمشى جنب الحيط ، لغايه ما تشتغل و تصرف على نفسك ، بعدها إعمل اللى تعمله .
شعر محمود بمراره تعتصر قلبه كل يوم و هو ذاهب للجامعة ، يمشى ببطء و ينظر لزملاءه بنظرهٍ جامدهٍ ، لا يضحك و لا يبكى .يدخل المحاضره ساكناً ناظراً فقط إلى دكتور رشدى حتى ينتهى ، ثم يخرج فى صمت .
و فى محاضره عن النسبيه ، رفع طالب يده ، فسمح له دكتور رشدى بالحديث ، فقال :
- يا دكتور أنا قريت مقاله كتبها عالم بيقول فيها أن أينشتاين عنده أخطاء فى النسبيه .
رد الدكتور مقاطعاً :
- أنت مالكش غير اللى أنا أقوله وبس ، أنت هتعمل لى فيها نيوتن !
فضحك الجميع ؛ فقام محمود فى صمت ، و خلع حزامه الجلدىّ ، و أتجه ناحيه الدكتور ، و أنهال عليه بالضرب.





..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق